إبراهيم (Mo Ibrahim)[1]؟
الجمعة 11 أبريل 2025
قد تتعثر مسيرة التاريخ أحيانا ، غير أنّه عندما يتمّ الإيقاع بها بصفة إراديّة في مجاهل النسيان يصبح التنديد بذلك ضرورة لا مناص منها. فمن خلال ضمّ ماكي صال إلى مجلس إدارتها، تكون مؤسسة « مو إبراهيم » قد تنكّرت لمبادئها التأسيسية، ومنحت غطاءً أخلاقيًا لأحد أكثر الزعماء إثارة للجدل في التاريخ السياسي السنغالي، بالنظر إلى انحرافه الاستبدادي، وازدرائه للمؤسسات، واعتماده سياسة اقتصادية قائمة على الاستدانة المفرطة والتلاعب بالحسابات الماليّة للبلاد.
ويُعد هذا الإجراء نكوصًا وتراجعا عن الرسالة التي حملتها المؤسسة منذ نشأتها، والمتمثلة في « تعزيز الحوكمة الرشيدة والقيادة المسؤولة » في القارة الإفريقية. فمن خلال مؤشر إبراهيم للحوكمة في إفريقيا (IIAG)، دأبت المؤسسة على تقييم مدى جودة المؤسسات، ومدى احترام الديمقراطية، وسيادة القانون، وضمان حقوق الأفراد. لكن، لو طُبقت هذه المعايير بصفة دقيقة وصارمة على تجربة مكّي صال، لبدا بجلاء على وجهه الحقيقي نموذجًا مضادًا لما ينبغي أن يُحتذى به.
أفلا يجدر التذكير بأنّ المؤسسة نفسها أعربت، في تقارير سابقة، عن بالغ قلقها إزاء الردّة الديمقراطيّة ،وتقييد الحريات الأساسية في عدد من الدول الإفريقية، ومن بينها السنغال خلال رئاسة ماكي صال للبلاد؟
سجلّ مكّي صال الديموقراطي المُشين
لا يُصنّف إرث مكّي صال في مجال الديموقراطيّة ضمن إنجازات البُناة المؤسّسين، بل هو أقرب ما يكون إلى سجلٍ ثقيل لرجلٍ أصرّ في عناد، على تقويض الديمقراطية السنغالية. فخلال فترة حكمه، تعرّضت دولة القانون لعمل ممنهج يهدف إلى إفراغها من محتواها، عبر سلسلة من الانتهاكات البنيوية: تسخير القضاء لتصفية الخصوم السياسيين، خنق حرية الصحافة، الاعتقالات الجماعية للمعارضين، القطع العشوائي لشبكة الإنترنت، حل الأحزاب السياسية والحركات المدنية، التلاعب بالمواعيد الانتخابية، ومحاولات الانقلاب على الشرعية الدستورية. إنها قائمة طويلة من الانتهاكات الفاضحة، موثقة بالأدلة والمصادر.
غير أن الأسوأ من كلّ ذلك أنّ عهده قد تلطّخ بدماء أبناء الوطن. ففي الفترة الممتدة بين عامي 2021 و2024، قُتل عشرات المتظاهرين السلميين برصاص قوات الأمن. وتشير المعطيات الميدانية إلى أنّ الضحايا لم يكونوا سوى طلاب، وشباب ناشطين، ومواطنين عابري سبيل، سقطوا في شوارع دكار، وزيغينشور (Ziguinchor)، وبيغنونا (Bignona)، وسانت لويس (Saint-Louis) ، لا لشيء سوى أنهم مارسوا حقًا دستوريًا أصيلًا يتمثّل في حقّهم في التعبير والاحتجاج السلمي.
فهؤلاء الضحايا لم يقضوا نحبهم بسبب »أخطاء فردية » أو « تجاوزات معزولة ». إنّهم شهود صامتون على نظام اختار، بعنوان استتباب الأمن و الحفاظ على النظام العام ، أن يحكم بإشاعة الخوف، ويُخضع الشعب عبر الترهيب والقمع.
لقد أكّد تقرير « أفروباروميتر » (Afrobarometer) الصادر سنة 2023 بما لا يدع مجالاً للشك هذه الحقيقة المتمثّلة في أنّ أكثر من نصف المواطنين السنغاليين (بنسبة 53%) يرون أنّ بلدهم لم يعد بلدا ديمقراطيّا بالفعل. هذه النسبة ليست مجرّد مؤشردون دلالة، بل هي تعبير صريح عن انهيار الثقة الشعبية في المؤسسات الوطنية القائمة انهيارا يعود بصفة طبيعيّة مباشرة لما يمكن تسميته بـ »نهج ماكي صال » — وهو نهج يتّسم بالمراوغة السياسية، وبتركيز مفرط للسلطة في شخصه، وباستخدام مبرّرات « مصلحة الدولة » بطريقة ذرائعية لتسويغ ما لا يمكن تبريره بأيّ حال من الأحوال.
إنّ محاولة مكّي صال لخلافة نفسه في ولاية ثالثة في سدّة الحكم وهي محاولة باءت بالفشل، لم تكن مجرّد خطأ في التقدير السياسي، بل كانت ثمرة مشروع سياسي طويل النفس، صيغ بعناية، وجرى الإعداد له منذ سنوات، بدعم من نخبة من الساسة المحلّيين والمستشارين الدوليين، الذين تمّ استقدامهم خصيصاً لإعادة تفسير الدستور وتأويله بما يخدم هذا المسعى غير المشروع.
وقد بلغ هذا الانحراف ذروته في الثالث من فبراير 2024، حين أصدر مكّي صال مرسوماً يقضي بتعليق العملية الانتخابية، وذلك عشيّة انطلاق الحملة الرئاسية.هذا القرار قُوبل بإدانة واسعة، وأُجمع على وصفه بـ »الانقلاب على المؤسّسات الدستوريّة »، بما في ذلك من قِبل المجلس الدستوري السنغالي نفسه، وهو ما يشكّل سابقة خطيرة في تاريخ السينغال ويجسّد بوضوح منتهى الاستهانة بالقانون والشرعية الانتخابية.
متصرّف بلا وازع أوضمير يفتقد إلى الشفافية
إنّ الجانب الآخر من « الإرث » الذي خلّفه مكّي صال — والذي يبدو أن مؤسسة « مو إبراهيم » آثرت التكتّم عليه— هو الخراب الاقتصادي والمالي الذي أورثه للشعب السنغالي.
فبحسب ما كشفته تقارير ديوان المحاسبة، تعمّد مكّي صال التقليل من أهميّة تأثير الديْن العمومي، وأخفى على السنغاليين العجز المزمن في ميزانية الدولة، وحصل على قروض خارج ما تسمح به القوانين المنظّمة للاستدانة ، وخرق المبادئ الأساسية للحوكمة الرشيدة، مفرّغًا مفهوم الخدمة العامة من معناه الأخلاقي.
وفي سياق نمو اقتصادي غير متكافئ، حيث يعيش أكثر من 37٪ من السكان تحت خط الفقر، تحوّلت المشاريع الكبرى للبنية التحتية إلى ستار برّاق يُخفي هشاشة عميقة في النموذج التنموي.
ذلك أن هذه المشاريع، وإن بدت علامات على التقدّم والتنمية ، لم تكن في جوهرها سوى أدوات لتلميع السلطة وتكريس الزبونية، إذ وُجّهت موارد الدولة لخدمة مصالح ضيقة، على حساب الفئات المهمّشة، وفي مقدمتها الشباب السنغالي الذي تُرك لحاله بلا حماية ولا أفق للعيش الكريم ملقى على الهامش في نظام اقتصادي غير مهيكل وهشّ.
أما مكّي صال، الذي يتحدّث اليوم من منفاه الباذخ في المغرب بلغة » رجل السلم والسلام »، فإنّ خطابه يتناقض بحدّة مع سجلّه السيّء في الحكم. فالسلام الذي يروّج له ليس سوى سلام المقابر التي تُدفن فيها الديموقراطيّة . وها هو يسعى اليوم من منفاه أن يكتسب شرعية ووجاهة دوليّة على ركام وطن ساهم في تقسيمه وإضعافه حين كان مؤتمنا – ويا للمفارقة- على حمايته ووحدته.
مؤسسة « مو إبراهيم »: مشروعية أخلاقية على المحك
إنّ المسألة هنا تتجاوز قضيّة مكّي صال وإرثه السلبيّ في الحكم وتطرح تساؤلات حول التجانس الأخلاقي لمؤسسة « مو إبراهيم نفسها » وتضع مصداقيتها على المحك.
هل ما زال بإمكان هذه المؤسسة أن تقدّم نفسها باعتبارها طرفا محايدا قادرا وموثوقا به لقياس مدى الالتزام بالحكم الرشيد في أفريقيا، وهي تُبجّل شخصيات أثبتت بممارساتها أنّها عملت في تضادّ تام مع القيم التي تدّعي « مو ابراهيم » الدفاع عنها؟
لا شكّ أنّ هذه المؤسسة ليست معصومة عن الخطأ، لكن تعيين مكّي صال في مجلس إدارتها لا يمكن تفسيره إلّا باستسلامها الأخلاقي وتنكّرها للمبادئ التي بُعثت من أجلها، بل أكثر من ذلك توظيف وجاهتها سياسيّا لتحسين صورة الحكام الاستبداديين السابقين.
وفي قارة غالبًا ما تكون فيها الثقة بين الشعوب والنخب السياسية منعدمة وتطالب الأجيال الجديدة فيها بقيادات تحكم في وضوح وشفافيّة وديمقراطية تتحلّى بالمسؤوليّة، فإنّ مثل هذا القرار الذي اتخذته « مو ابراهيم » في ضمّ مكّي صال إلى مجلسها الإداري من شأنه أن يُضعف النضال المشترك من أجل السيادة الشعبية، والعدالة، والمحاسبة في القارة الأفريقيّة .
إنّ قبول ماكي صال في الدائرة الضيّقة ل « حكماء » الحوكمة الأفريقية الرشيدة لا يعني سوى تكريس ازدواجية الخطاب: لغة مزخرفة للديمقراطية في التقارير الدولية في تضاد مع ممارسات استبدادية في واقع الحال. هذا من شأنه أن يساهم في التطبيع مع العنف المؤسسي، و التحفيز على التلاعب بالإجراءات القانونية، و على قمع الحريات تحت شعار الاستقرار المزعوم.
فإذا كانت مؤسسة « مو إبراهيم » تسعى للبقاء وفيّة لمهمتها التي بُعثت من أجلها، فيجب عليها إعادة النظر في هذا التعيين، أو على الأقل تقديم توضيحات دقيقة حول المعايير الأخلاقية التي اعتمدتها في اتخاذ قرارها هذا. إنّ أفريقيا جديرة بما هو أفضل وهي ليست في حاجة بكلّ تأكيد إلى إعادة تأهيل هؤلاء الحكام المستبدين السابقين. إنّها تحتاج إلى قادة قادرين على تحقيق التغيير الجذري، لا إلى مخرّبي أوطان يُعاد بعثهم وإخراجهم في مظهر جديد .